بدايةً لا بد من التمييز بين مفهومين؛ الدين بوصفه مجموعة التعاليم والأحكام التي نزلت من الله، والتدين بوصفه السلوك الإنساني المستمد من هذه التعاليم وتطبيقها في الحياة، وعلى كافة المستويات.
ومن هنا فإن النقد الواجب هو مختص بالتدين لا بالدين، والمراجعات النقدية تنصب على هذا الجانب، ولذا فليس من المعقول الهروب من هذا الفعل وتحريمه ومنعه، بحجة أن الدين تعاليم إلهية لا يجوز نقدها، والتدين ليس الدين بالضرورة، بل هو سلوك إنساني يعتمد على الفهم والتفاعل مع تلك التعاليم، فقد يصبح الدين محركاً وفعلا ثورياً وفكرياً، وقد يصبح عجزاً وتواكلاً وتبريراً، وتصلح عليه المقولة الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"، وذلك حسب حالة التدين المبنية عليه.
الأديان جاءت لتحرير الإنسان والارتقاء به سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً، وذلك واضح من خلال التعاليم الدينية التي تدعو إلى التفكير والتحرر والارتقاء بالسلوك الفردي والجماعي والقيمي، والدعوة إلى العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ونبذ الاستغلال والاستعباد والذل والعجز والكسل والجهل والفقر، بل إن الأديان جاءت بوصفها حالة ثورية ضد القيم السلبية في المجتمعات، واخترقت البنى الفكرية السائدة لتشكل منها حالة وعي جديدة.
فكل نبي جاء بتعاليم جديدة كان يواجه صعوبات كبيرة، وهي في ظني ليست ناتجة عن عدم قبول الدين بشكله المجرد، بل هي ناتجة عن عدم قبول التدين، وهو السلوك المبني على تلك التعاليم بطريقة صحيحة، وقد أشارت بعض حوادث السيرة النبوية إلى تلك المعاني، حيث عرضت قريش على محمد عليه السلام القبول بما جاء به شريطة التغاضي عن تطبيق بعض القضايا الخاصة بالزكاة والعدالة وحقوق العبيد، وقد رفض النبي عليه السلام تلك العروض المغرية، لأنه لا يريد أن تفرغ التعاليم من مضمونها، ولأن الدين الصحيح هو الذي ينزل على الواقع ويبتغي تغييره، ليصبح التدين سلوكاً منسجماً مع التعاليم، وإلا فالتناقض سيؤدي حتماً إلى المقت وعدم الثقة، وهذا واضح في قوله تعالى في سورة الصف "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ".
والمشكلة اليوم أن أغلب ما ينادي به الدعاة هو الاهتمام بفقه الدين لا بفقه التدين، والفرق بينهما واضح عند بعض العلماء، فالفقه في الدين قد يدركه المسلم بيسر، وهو سهل من خلال دراسة الأحكام وما يتعلق بها، ومعناه معرفة الأحكام والفرائض وشتى الأمور الشرعية، أما الفقه في التدين فهو سبيل آخر، يُقْصد به فهم وإدراك الواقع وما يحمله من إشكاليات كبرى، وذلك حتى ينسجم التدين مع الدين، فالدين ثابت، والتدين متحول، لهذا على التدين أن يتحرك في اتجاه الدين مراعياً كل المتغيرات التي تطرأ في حياة الإنسان وكل الحوادث الجديدة مع تقدير الظروف الداخلية والخارجية المؤثرة ولا شك في قضايا "التدين".
ويرى د. جاسم سلطان "أن الأمة الإسلامية تعي فقه الدين بمعنى الأحكام التاريخية لمجتمعات سلفت وبيئات مضت، أكثر مما تعرف فقه التدين، وهي مقاربة الواقع المعاصر وإشكالياته وتحدياته التي لم تعرفها المجتمعات السابقة؛ ومن هنا تولدت المطبات وتوالت المصاعب عند الإخفاق وعند النجاح على وجه سواء".
أما الدكتور عبد المجيد النجار فيرى " أن فقه التدين أشد تعقيداً، وأكثر صعوبة من فقه الدين؛ لأن هذا الأخير يكون دائراً على العلاقة بين مصدر الدين قرآناً وحديثاً، وهو منضبط في خصائصه ومواصفاته، وبين العقل المدرك، وهو منضبط في قانونه الإدراكي. أما فقه التدين فإنه يدور على العلاقة بين عناصر ثلاثة، تضم إلى جانب العنصرين السابقين عنصر واقع الحياة الإنسانية، وهو عنصر شديد التعقيد في أسبابه وتفاعلاته وملابساته"، وقد أشار الإمام الشاطبي إلى هذا المعنى فيما سماه بالاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وقال فيه "إنه اجتهاد لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، كما قال فيه إن "معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في التعيين نفسه، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة، إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب..".
المطلوب من الإنسان المتدين البحث عن القيم الفكرية والسلوكية في تعاليم الدين، لتكون فاعلة في أمور الحياة كافة دون تغليب جانب على آخر، ودون الاهتمام بالشكليات على حساب المضمون كما يحصل اليوم، وكذلك الموازنة والانسجام بين أحكام الدين وأحكام التدين لتصبح حالة فكرية مستمرة ونشطة، لتتحول بالتالي إلى حالة وعي تواجه الواقع وتسعى إلى التأثير فيه، وإذا بقي التدين مظهرا بلا مضمون، فإنه سيكون قشوراً وطقوساً لا معنى لها ولا فائدة، إذ يمكن أن يكون المصلّون هم أكثر الناس قبولاً للذل والظلم، وأكثر الناس انسحاباً من الواقع هم الذين يؤدون الفروض التي لا تكلفهم كثيرا من التضحيات، ويعتقدون أنهم يرضون ضمائرهم بتلك الأفعال!
* كاتب أردني