الحسد هو تمني زوال النعمة عن المنعَم عليه، وخصَّه بعض العلماء بأن يتمنى الإنسان ذلك لنفسه، والصحيح أنه أعم، وسببه كما يقول ابن حجر بأنّ الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه له ليرتفع عليه أو مطلقاً ليساويه، وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل، وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات، ويقول الراغب الأصفهاني: "الحسد تمني زوال نعمة من مستحِق لها، وربما كان مع ذلك سعيٌ في إزالتها"، مما يعني احتمال الجريمة.
وقد ذكر القرآن الحسد في أربع آيات، ففي سورة البقرة حديث عن أهل الكتاب وحسدهم للمسلمين على إيمانهم، فقال تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد تبين لهم الحق، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير"، (الآية: 109)، وفي سورة النساء حديث عن طائفة من اليهود وحسدهم للمسلمين، فقال تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً"، (الآية: 54)، وفي سورة الفتح حديث عن الأعراب المتخلفين عن رسول الله في الغزو، ويطمعون في الغنائم، فيحسدون المؤمنين على هذه الغنائم، قال تعالى: "سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم، يريدون أن يبدلوا كلام الله، قل لن تتبعونا، كذلكم قال الله من قبل، فسيقولون بل تحسدوننا، بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً"، (الآية: 15)، وأخيراً في سورة الفلق الحديث عن الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد: "ومن شر حاسد إذا حسد"، فكونه مما يستعاذ منه أكبر دليل على خطر هذه الصفة وعظم نتائجها.
وترجع علة داء الحسد إلى الإفراط في الأنانية وحب الذات مع ضعف في الإيمان بكمال حكمة الله تعالى، فيقود الحسدُ صاحبَه إلى الاعتراض على الله في حكمته في توزيع نعمه على خلقه.
وإذا جئنا إلى ما بينته الآيات القرآنية عن الحسد، فإننا نجد القرآن يحدثنا عن حقد أهل الكتاب وحسدهم وما يكتمونه في صدورهم من كره للمسلمين، وكيف أوصلهم الحسد إلى أن يتمنوا رِدَّة المسلمين من الإيمان إلى الكفر، قال تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير"، ولا نبالغ إذا قلنا بأن عداء هؤلاء للمسلمين كان في الدرجة الأولى حسداً لأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان من العرب، ولم يكن من بني إسرائيل، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف من ردة المسلمين عن دينهم فلنا أن نتوقع كل شيء ممكن من وسائل الإضلال والانحراف، والدليل ما نرى في واقع حياتنا، وما نسمعه عمن سبقنا، وصدق الله العظيم: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير"، (البقرة: 120).
وهذا الداء ربما يؤدي إلى كثير من الجرائم، فقد تحدث القرآن عن قتل قابيل لأخيه هابيل حسداً، فقد حسده لأن الله تقبل قربان أخيه دون قربانه، وسنّ قابيل بذلك سنة القتل في هذه الأرض، ومن هنا أتبع ربنا عز وجل قصة قابيل وهابيل الحديث عن القتل فقال سبحانه: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، (المائدة: 32)، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: "لا تقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل –نصيب- من دمها، لأنه أول من سن القتل".
ونلاحظ كيف فرق السياق بين شخصيتي قابيل وهابيل، فعامِل العدوانية عند قابيل موجود وباعثه موجود وهو الحسد الذي سيطر على مشاعره ونفسه فعندها طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، بينما نلاحظ على شخصية هابيل تقواها لله وخلوها من السلوك العدواني فهي شخصية تخاف الله وعاقبة فعل القتل.
أما عن فعلة إخوة يوسف عليه السلام معه فقد كان الباعث على الجريمة هو الحسد وما أنتجه من الغيرة، وسبب مباشر لذلك كان موضوع المحاباة بين الأبناء، فقد تنامت مشاعر الكره لهذا الصبي المميز بالعاطفة والحب إلى درجة التصفية الجسدية، وعندها اجتمعوا ليدبروا مكيدة يتخلصوا من خلالها من يوسف، فقالوا لبعضهم: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين"، (يوسف: 9)، ثم عدلوا عن أمر القتل المباشر إلى التخلص منه بطريقة أو بأخرى ولو كانت قتلاً غير مباشر فقال قائل منهم: "لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين"، (يوسف: 10)، ثم كان ما كان من تبنيهم هذا الرأي الأخير وكذبهم على أبيهم.
ولنا أن نبين خطورة مثل هذه التصرفات من الوالدين تجاه أولادهم، فالمحاباة تترك تراكمات وآثاراً سلبية لا تحمد عقباها، فإن لم تتطور إلى الاعتداء فلا نسلم من آثار الحسد الأخرى أو البغض والكره بين الإخوة أنفسهم، وهي مظاهر سلبية في الأسرة والمجتمع، ولا بد من التخلص منها، فالطفل ما دام دون سن البلوغ لا يدرك الدوافع الحقيقية وراء تصرف الآباء تجاه أبنائهم، فينبغي التنبه لذلك.
ويلحق بهذه المسألة الأسرية أمور الحرمان أثناء الطفولة، فهي مسائل تترسب في النفس وربما تشكل منهجية عدوانية ضد الآخرين، ونحن لا نقول بأن إخوة يوسف عانوا من الحرمان، فهم قالوا: "ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة"، (يوسف:
، فدلالة فعل التفضيل (أحب) تبين أن يعقوب عليه السلام كان يحبهم جميعاً، إلا أن حبه ليوسف وأخيه أكبر، وهذا الذي أدى إلى الحسد والبغضاء، فكيف إذا كان هناك حرمان كلي من العطف والحب وسائر الحقوق الأخرى!؟ فالحقيقة أننا نتوقع نفسية عدوانية شرسة.
هناك عوامل مرتبطة بأخطاء في التنشئة منذ الصغر، وقد لفت القرآن النظر إليها، منها الحرمان والمحاباة، التنشئة الأسرية الخاطئة التي تتمثل بالعنف والقسوة والعقاب والرفض للطفل، غياب المراقبة الأسرية على الأطفال وذلك بانشغال الآباء عن متابعة الأبناء وتربيتهم وغيابهم الطويل عن البيوت وانشغال الأم كذلك عن وظيفتها الأولى ألا وهي رعاية الأبناء وتربيتهم وتأديبهم.