يُمثّل الاستشراق ذلك التيّار الذي ظَهَرَ في الدراسات المُختلفة عن المشرق الإسلاميّ، حيث شمل حضارته وآدابه ولغاته وثقافته، وقد أسهمَ هذا التيّار في صياغة التصوّرات الغربيّة عن العالم الإسلاميّ، ومُعبِّراً عن الخلفيّة الفكريّة للصراع بينهما، ولا ريبَ أنَّ الاستشراق هو الوليد الطبيعيّ للثقافة التي تُنْتِجه.
المُفكّر إلى حدٍّ كبير هو رهين الثقافة التي ينشأ فيها وليسَ وليداً للموضوع المدروس، ولهذا لم يستطع أي مُستشرق أن يتناول موضوعاته دون الخضوع للقوالب والحدود الفكريّة والعلميّة المفروضة عليه مُسبقاً، بسببٍ من ثقافته التي يَصْعُبْ عليه الانفلات منها، ولقد استفاد الاستعمار الأوروبيّ الحديث كثيراً من التراث الاستشراقيّ، حيث يقول إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" بأنَّه قد تواكبت مرحلة التقدّم الضخم في مؤسّسات الاستشراق، في شكله ومضمونه، مع التوسّع الأوروبيّ.
وفي السياق ذاته، من الواضح أنَّ التشويه والانتقائيّة يعتريان أغلب دراسات المُستشرقين في معظم المجالات، ويُعد هذا التشويه نتاجاً طبيعيّاً لاستخدام مناهج البحث الغربيّة الماديّة والعلمَانيّة وغيرها من المناهج التي خضعت في نشأتها وتطوّراتها لظروفٍ زمانيّة ومكانيّة، بما فيها من تفاعلات اجتماعيّة تتناقض بل تتصادم مع وقائع التاريخ العربيّ والإسلاميّ، كما أنَّ بعض هذه المناهج جاء حرباً على الشريعة الإسلاميّة ذاتها.
بمعنى آخر، فإنَّ فهم الإسلام حسب ما قدّمته الدراسات الاستشراقيّة يدخل في علاقة مع تجارب الاستشراق الخاصّة، بحيث لا يمكن فصل طروحاتهم بمعزلٍ عن واقعه الاجتماعيّ الذي أثرَّ فيهم، كما أنَّ الاستشراق بتبعيّته للمؤثّرات الخارجيّة يفقد الصفة العلميّة التي يدَّعيها، ويجعل منه مجرّد أداة في أيدي الحضارة الغربيّة وتوجهاتها المختلفة، إذ أنَّه يكشف عن عقليّة الغرب أكثر ممّا يكشف عن الموضوع المدروس.
ويرى مالك بن نبي في كتابه "إنتاج المُستشرقين وأثره في الفكر الإسلاميّ الحديث"، أنَّ أوروبا سعت إلى اكتشاف الفكر الإسلاميّ في المرحلة العصريّة الاستعماريّة مرَّة أُخرى، لا من أجل تعديل ثقافيّ، بل من أجل تعديلٍ سياسيّ لوضع خططها السياسيّة مُطابقةً لما تقتضيه السياسات في البلاد الإسلاميّة، وصولاً إلى السيطرة على الشعوب الخاضعة لسلطانها، ذلك أنَّ الخطاب الاستشراقيّ لم يكن أميناً في عرضه للتراث الإسلاميّ، ممّا أدى إلى أن يشوّه الاستشراق من نفسه ومن تاريخه، كما شوّه إنجازاته، وشوّه الشخصيّة الإسلاميّة أمام نفسها وأمام العالم الغربيّ، فما استطاع الغرب أن يفهمها حين تعامَل معها، وما استطاعت أنْ تعرّف نفسها للغرب، إذ سبقها الاستشراق، وأغرى بها الاستعمار، وقدّم المشرق الإسلاميّ لقمةً سائغةً للاستعمار الحديث في بلادنا.
ومن العسير، عند هذه النقطة من الحديث، وقد كان الاستشراق مرتبطاً بالاستعمار، أن يقيم الاستشراق علاقات اعترافٍ متبادَلَة بين العالم الإسلاميّ والغرب، ولعلَّ هذا يقودنا إلى طرح التساؤل المنطقيّ: كيف يمكن لأطراف يجهل بعضها بعضاً، أو يتجاهل بعضها بعضاً، أن تعترف اعترافاً مُتكافئاً وحقيقيّاً، وكيف يمكن لها من دون اعترافٍ تامٍّ بوجودها الإنسانيّ المتناسق أن تتعرّف إلى بعضها تعرّفاً مختبريّاً كالذي أوصلنا إليه المختبر الاستشراقيّ، ثمَّ المختبر السياسيّ - الاستعماريّ بكل تبعاته الاقتصاديّة والعسكريّة وأنظمة الغزو كما يقول أحمد خليل في دراسته "الاستشراق مشكلة معرفة أم مشكلة تعارف بالآخر؟".
ولعلّه من قبيل الموضوعيّة الإشارة إلى وجود مجموعة من المُستشرقين الذين درسوا الإسلام وحضارته بروحٍ علميّة مُحايدة؛ مثل دراسات توماس أرنولد، وغوستاف لوبون، وجاك بيرك، وكارلايل، وأتيين دينيه، ولكنَّ هذه الدراسات العلميّة تعد ضئيلة التأثير بالقياس إلى سيل الدراسات الاستشراقيّة التي بلغت في الفترة 1811-1950 قرابة ستين ألف كتاب تُعنى بالشرق العربيّ وحده، كما أوضح ذلك غسان سلامة في دراسته "عصب الاستشراق"، بل إنَّ الكنيسة في أوروبا منعت تداول الكتب التي أظهرت عطفاً أو حياداً بخصوص الإسلام، ووضعتها في قائمة المُحرّمات، وبطشت بمؤلِّفيها، ويمكن لمن أراد التعرّف على نماذج من هذه الممارسات الغربيّة الرجوع إلى كتاب محمود زقزوق "الاستشراق والخلفية الفكريّة للصراع الحضاري".
من زاوية أُخرى، سعى المُستشرقون إلى تحقيق أهدافه من خلال وسائل متعدّدة، فمن اكتساب عضوية مجامع اللغة العربيّة، إلى إصدار المجلاّت المُتخصِّصة، وإلقاء المُحاضرات، وصولاً إلى إصدار الموسوعات الكبرى مثل "دائرة المعارف الإسلاميّة"، غير أنَّ الأخطر من هذا كلّه السعي إلى تطبيع الفكر الاستشراقيّ من خلال إيجاد كوادر محليّة تتبنّى الطروحات الاستشراقيّة، حيث يتمّ تعليم هذه الكوادر على أيدي المُستشرقين في الجامعات المحليّة، أو أقسام الدراسات العربيّة والإسلاميّة في الجامعات الغربيّة، ورغم قول البعض إنَّ هذه الخطوة كانت لها فوائد معيّنة في هذا الجانب أو ذاك من التراث الإسلاميّ، إلاَّ أنَّ هذه التوجهات كانت مُشبعة إلى حدٍّ كبيرٍ بالمُسلَّمات، والرؤى الأُحاديّة، والمفاهيم التاريخيّة المُغلقة، التي أحبطت في الكثير من الأحيان الأعمال العلميّة المُميّزة.
وعلى الشاطئ المُقابل، يبرز تساؤل جديد حول الكيفيّة التي تَراكَم بها هذا الانحراف الاستشراقيّ، في الوقت الذي كان فيه للإسلام وجود فاعل في أوروبا، ابتداءً من القرن الثامن الميلاديّ وحتى انهيار الدولة العثمانيّة، أي أنَّ علماء وفقهاء المُسلمين قديماً وحديثاً يتحمّلون قدراً من المسؤوليّة في بروز الانحراف الاستشراقيّ واستمراريّته، ذلك أنَّهم تركوا الساحة الفكريّة للمُستشرقين يدرّسون في جامعات العالم الإسلاميّ، ويجمعون المخطوطات العربيّة، بل ويكتبون تاريخ الأدب العربيّ، ودائرة المعارف الإسلاميّة والمعاجم، وبصورةٍ أدقّ، فإنَّ الفكر الاستشراقيّ بعد أنْ شكّل العقليّة الغربيّة، وحدّد موقفها تجاه الإسلام -وهو موقفٌ عدائيّ- يتجه بآلياته المعرفيّة إلى تشكيل العقل المُسلم ذاته، ليحدّد موقفه هو الآخر تجاه الشريعة الإسلاميّة، من خلال توطين الاستشراق في العالم الإسلاميّ.
وما أحسبُ أنَّ بإمكاننا، ونحن نتحدّث عن الاستشراق وآثاره على فكرنا العربيّ والإسلاميّ، أن ندفع عن أنفسنا حقيقة القول إنَّ الخروج من عصر التبعيّة الفكريّة هو المدخل العلميّ والطبيعيّ للتخلّص من التخلّف الحضاريّ، والتبعيّة السياسيّة، والاقتصاديّة، لأنَّ مضمون النهضة التي نسعى إليها هو تحرير الإنسان المُسلم من العبوديّة لكافّة الأصنام السياسيّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة.
* كاتب أردني
manar26@hotmail.com